طالوت وجالوت ” جزء 2″

الدكرورى يكتب عن طالوت وجالوت ” جزء 2″

بقلم / محمـــد الدكـــرورى

طالوت وجالوت ” جزء 2″

ونكمل الجزء الثانى مع طالوت وجالوت، وبنو إسرائيل مكثوا في أرض التيه أربعين عاما، وخلال هذه الأربعين مات نبى الله هارون ثم مات نبى الله موسى عليهما السلام، ثم عهد نبى الله موسى بأمر النبوة من بعده إلى يوشع بن نون فتاه، ثم مكثوا سنين طويلة، وخلال هذه السنين الطويلة كان العماليق يحاربون بني إسرائيل ويتعرضون لهم، فكان الإنهاك والقتل في بني إسرائيل أكثر، فلما شعر بنو إسرائيل بالضعف لجئوا إلى نبي لهم وقيل إن اسمه شمعون وقيل إن اسمه شوميل، وقيل إن هذين الاسمين لرجل واحد، وهو الأظهر، فسألوه أن يبعث الله لهم ملكا يقودهم لأن الناس لا يمكن أن يجاهدوا أو يحاربوا أو يسوسوا أمرهم بدون شخص يأتمرون به، فهذا أمر خلاف العقل.

وقال السعدي رحمه الله في تفسيره “يقص الله تعالى على نبيه قصة الملأ من بني إسرائيل وهم الأشراف والرؤساء، وخص الملأ بالذكر، لأنهم في العادة هم الذين يبحثون عن مصالحهم ليتفقوا فيتبعهم غيرهم على ما يرونه، وذلك أنهم أتوا إلى نبي لهم بعد موسى عليه السلام فقالوا له” ابعث لنا ملكا” أى عين لنا ملكا ” نفاتل فى سبيل الله” ليجتمع متفرقنا ويقاوم بنا عدونا، ولعلهم في ذلك الوقت ليس لهم رئيس يجمعهم، كما جرت عادة القبائل أصحاب البيوت، كل بيت لا يرضى أن يكون من البيت الآخر رئيس، فالتمسوا من نبيهم تعيين ملك يرضي الطرفين ويكون تعيينه خاصا لعوائدهم، وكانت أنبياء بني إسرائيل تسوسهم، كلما مات نبي خلفه نبي آخر.

فلما قالوا لنبيهم تلك المقالة ” قال” لهم نبيهم ” هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا” أي لعلكم تطلبون شيئا وهو إذا كتب عليكم لا تقومون به، فعرض عليهم العافية فلم يقبلوها، واعتمدوا على عزمهم ونيتهم، فقالوا ” وما لنا ألا نقاتل فى سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا” أى أي شيء يمنعنا من القتال وقد ألجأنا إليه، بأن أخرجنا من أوطاننا وسبيت ذرارينا، فهذا موجب لكوننا نقاتل ولو لم يكتب علينا، فكيف مع أنه فرض علينا وقد حصل ما حصل، ولهذا لما لم تكن نياتهم حسنة ولم يقوى توكلهم على ربهم “فلما كتب عليهم القتال تولوا” فجبنوا عن قتال الأعداء وضعفوا عن المصادمة، وزال ما كانوا عزموا عليه، واستولى على أكثرهم الخور والجبن “إلا قليلا منهم”

فعصمهم الله وثبتهم وقوى قلوبهم فالتزموا أمر الله ووطنوا أنفسهم على مقارعة أعدائه، فحازوا شرف الدنيا والآخرة، وأما أكثرهم فظلموا أنفسهم وتركوا أمر الله، فلهذا قال ” والله عليم بالظالمين، وقال لهم نبيهم” مجيبا لطلبهم ” إن الله قد بعث طالوت ملكا” فكان هذا تعيينا من الله الواجب عليهم فيه القبول والانقياد وترك الاعتراض، ولكن أبوا إلا أن يعترضوا، فقالوا ” أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال” أي كيف يكون ملكا وهو دوننا في الشرف والنسب ونحن أحق بالملك منه، ومع هذا فهو فقير ليس عنده ما يقوم به الملك من الأموال، وهذا بناء منهم على ظن فاسد، وهو أن الملك ونحوه من الولايات مستلزم لشرف النسب وكثرة المال.

ولم يعلموا أن الصفات الحقيقية التي توجب التقديم مقدمة عليها، فلهذا قال لهم نبيهم “إن الله اصطفاه عليكم” فلزمكم الانقياد لذلك ” وزاده بسطة فى العلم والجسم” أى فضله عليكم بالعلم والجسم، أى بقوة الرأي والجسم اللذين بهما تتم أمور الملك، لأنه إذا تم رأيه وقوي على تنفيذ ما يقتضيه الرأي المصيب، حصل بذلك الكمال، ومتى فاته واحد من الأمرين اختل عليه الأمر، فلو كان قوي البدن مع ضعف الرأي، حصل في الملك خرق وقهر ومخالفة للمشروع، قوة على غير حكمة، ولو كان عالما بالأمور وليس له قوة على تنفيذها لم يفده الرأي الذي لا ينفذه شيئا “والله واسع” فهو تعالى الفضل كثير الكرم، لا يخص برحمته وبره العام أحدا عن أحد، ولا شريفا عن وضيع.