#صفاء_الليثي تكتب..  سكينة الروح وعمق التجربة

#صفاء_الليثي تكتب..  سكينة الروح وعمق التجربة

في دروب الحياة المتعرجة، حيث تتراقص الأفراح وتتوالى الأحزان، يجد الإنسان نفسه في رحلة مستمرة لاكتشاف ذاته وعلاقته بالكون من حوله. وبينما يتجه البعض نحو إعلان كل ما يعتريه من مشاعر، يفضل آخرون أن تكون مساحاتهم الروحية ملاذًا خاصًا، لا يُطلَع عليها إلا الخالق ومن ائتمنوا سرهم بصدق. هنا، تتجلى عبارة “أخبئ فرحتي بين الله وخبي وحزني بين أضلاعي” كفلسفة حياة عميقة، ترسم ملامح شخصية تتسم بالسكينة، اليقين، والقدرة على مواجهة تقلبات الدهر بروح متسامية.

الفرح: سر بين العبد وخالقه

عندما نتحدث عن إخفاء الفرح بين الله و”خبي”، فإننا نلامس جوهر العلاقة الروحية الصادقة. “خبي” هنا ليست مجرد كلمة، بل هي رمز لمخبأ سري، لمكان آمن في أعماق الروح لا يصل إليه إلا نور الإيمان. الفرح الحقيقي، ذلك الذي يلامس شغاف القلب ويملأ الروح بالبهجة، غالبًا ما يكون نابعًا من نعم خفية، أو استجابات لدعوات صادقة، أو تحقيق أمنيات طال انتظارها. هذه الأفراح، التي قد لا يدركها الآخرون أو يفهمون عمقها، يفضل المؤمن أن يبقيها بينه وبين خالقه.

لماذا هذا الإخفاء؟ ليس الأمر خوفًا من الحسد بقدر ما هو رغبة في شكر حقيقي لا تشوبه شائبة، وإقرار بالفضل لله وحده. إن إخفاء الفرح يجعله أكثر نقاءً، بعيدًا عن بهرجة المظاهر وتوقعات البشر. إنه نوع من الخلوة الروحية، حيث يتأمل الإنسان عظمة النعمة، ويستشعر قرب الله، ويجد في هذه العلاقة حميمية لا مثيل لها. هذه الأفراح المخبأة هي رصيد روحي، يعود إليها الإنسان في أوقات الشدة ليجد فيها قوة وسلوى، متذكرًا أن الله إذا شاء أعطى من حيث لا يحتسب.

الحزن: طاقة كامنة بين الأضلاع

على النقيض من الفرح، يأتي الحزن. “وحزني بين أضلاعي” ليست مجرد صورة شعرية، بل هي تعبير عن قوة التحمل، وقدرة النفس على استيعاب الألم دون أن تنهار. الأضلاع، التي تحمي القلب والرئتين، ترمز هنا إلى حصن داخلي، إلى القدرة على احتواء المشاعر القاسية وتطويعها.

إخفاء الحزن لا يعني إنكاره أو قمعه، بل يعني التعامل معه بوعي وحكمة. في كثير من الأحيان، يكون إظهار الحزن علانية استنزافًا للطاقة، وقد يجلب شفقة لا يرغب بها المرء، أو تساؤلات تزيد من وطأة الألم. الشخص الذي يخبئ حزنه بين أضلاعه هو من يدرك أن الألم جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، وأنه يمكن تحويله إلى طاقة دافعة للنمو والتغيير. إنه يسمح لنفسه بالشعور الكامل بالحزن، ولكن في خلوته، بعيدًا عن أعين المتطفلين.

هذا لا يعني الانعزال التام، فالإنسان كائن اجتماعي يحتاج إلى الدعم والمؤازرة. لكنه يعني اختيار من يشاركه هذا الحزن بحكمة، وأن تكون مساحة الشكوى ضيقة ومخصصة لمن يفهم ويقدر، وليس لمن يكتفي بالمواساة السطحية. الحزن المخبأ يمر بمراحل الهضم النفسي، حيث يتحول من ألم حاد إلى فهم عميق للحياة، وإلى صبر على البلاء، وإلى يقين بأن بعد العسر يسرًا. هذا الحزن، عندما يُعاش بوعي، يصقل الروح ويمنحها صلابة فريدة، ويجعل الإنسان أكثر فهمًا لآلام الآخرين وتعاطفًا معهم.

التوازن بين الظاهر والباطن

هذه الفلسفة في إخفاء الفرح والحزن تعكس توازنًا دقيقًا بين ما هو ظاهر وما هو باطن في حياة الإنسان. إنها دعوة للتفكير في قيمة الخصوصية الروحية، وفي أهمية بناء عالم داخلي متين لا يتأثر بتقلبات الخارج. إنها تذكرنا بأن القوة الحقيقية ليست في إظهار كل شيء، بل في القدرة على إدارة المشاعر بفاعلية، وفي الحفاظ على مساحة شخصية مقدسة.

الفرح المخبأ يجعلك ممتنًا، غير متباهٍ، ومدركًا دائمًا لمصدر النعمة. والحزن المخبأ يجعلك صبورًا، متفهمًا، وقادرًا على تحويل الألم إلى حكمة. هذه الطريقة في التعامل مع المشاعر تقوي العلاقة بالله، وتعمق فهم الإنسان لذاته، وتجعله أكثر قدرة على مواجهة التحديات بقلب سليم وروح مطمئنة.

في الختام، إن عبارة “أخبئ فرحتي بين الله وخبي وحزني بين أضلاعي” ليست دعوة للانعزال أو القمع العاطفي. بل هي دعوة إلى الخلوة الروحية، إلى التأمل العميق، وإلى إدراك أن بعض المشاعر أثمن من أن تُعرض على الملأ. إنها فن إدارة المشاعر بذكاء ويقين، بحيث يكون الفرح شكرًا خاصًا لله، ويكون الحزن طريقًا نحو الصبر والقوة، وكلاهما يسهم في بناء شخصية أكثر سكينة، وأعمق إيمانًا، وأشد ثباتًا في مواجهة مصاعب الحياة. إنها فلسفة تمنح الإنسان القدرة على العيش بسلام داخلي، مهما كانت

عواصف الخارج.