عدم تفكيك حزب الله.. هل يعد مدخل للهيمنة الإسرائيلية على لبنان؟

عدم تفكيك حزب الله.. هل يعد مدخل للهيمنة الإسرائيلية على لبنان؟

لقد تصدر حزب الله المشهد اللبناني منذ ثلاثة عقود تقريباً، بوصفه أكثر من مجرد تنظيم مسلّح، إنّه، في المعادلة السياسية والاقتصادية والأمنية، أشبه بجدار يحول دون انهيار التوازن الداخلي أمام أطماع الخارج.

عدم تفكيك حزب الله.. هل يعد مدخل للهيمنة الإسرائيلية على لبنان؟

ويعيش الحزب اليوم واحدة من أكثر لحظاته حساسية على الإطلاق، نتيجة التداخل بين الحرب المفتوحة مع إسرائيل على جبهة الجنوب، والضغط الدولي المتنامي.

 

استراتيجيات خارجية

 

إن النقاش حول احتمالات تفكيكه أو تحجيمه لم يعد مجرد خطاب سياسي، بل تحوّل إلى أداة رئيسية في صوغ الاستراتيجيات الخارجية، خصوصاً تلك التي تديرها إسرائيل تحت غطاء أمريكي ـ أوروبي.

 

وفي هذا السياق، يصبح تفكيك الحزب ليس شأناً داخلياً لبنانياً، بل مشروعاً استراتيجياً غايته إعادة تركيب لبنان على نحو يتيح لإسرائيل السيطرة على موارد البلاد، ولا سيما تلك الكامنة في البحر، مثل بلوك 9 النفطي والغازي.

 

لبنان بين البلوك والفراغ السياسي

 

منذ توقيع اتفاق الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل عام 2022، بدا أن البلوك 9 قد أصبح رمزاً جديداً للصراع الخفي بين المقاومة وإسرائيل.

 

ففي اللحظة التي حصل فيها لبنان على اعتراف ضمني بحقوقه في التنقيب ضمن هذه الرقعة الغنية، سارعت تل أبيب إلى بناء معادلة معقدة: إذا بقي حزب الله، فإن الاستثمار في البلوك 9 سيكون هشّاً ومهدداً؛ وإذا جرى تحجيم الحزب أو تفكيكه، فإن الموارد ستتحوّل إلى باب واسع لإدماج لبنان في المنظومة الاقتصادية الإسرائيلية من موقع التابع.

 

اللافت أن إسرائيل لا ترى في الغاز مجرد ثروة مالية، بل أداة لإعادة هندسة المنطقة سياسياً. عبر الغاز تستطيع أن تربط لبنان بأسواقها وأن تحوّله من بلد ممانع إلى بلد متكيّف مع قواعد اللعبة الجديدة.

 

الثروات اللبنانية

 

من هنا، يظهر أن الضغط لتفكيك حزب الله ليس منفصلاً عن السعي للتحكم في الثروات اللبنانية. فالحزب يملك ما يكفي من القوة العسكرية لفرض معادلة ردع تمنع إسرائيل من التصرّف بحرية في الحدود البحرية، كما يملك ما يكفي من الحضور السياسي لعرقلة أي اتفاقيات مشبوهة مع الخارج. لذلك يصبح التخلص منه شرطاً أساسياً لفتح الطريق أمام استباحة البلوك 9 وما بعده.

 

لكن المفارقة أن المؤيدين لاقتلاع الحزب يرون أنه قد يقود لبنان إلى فراغ استراتيجي كامل، ليس فقط في السياسة الداخلية بل في إدارة موارده، والبديل عن الحزب ليس دولة قوية قادرة على التفاوض والتوزيع العادل للثروة، بل سلطة هشّة. عندها، يصبح البلوك 9 نقمة لا نعمة، إذ يتحوّل إلى فخ لإغراق لبنان في المزيد من التبعية لإسرائيل وشبكات الطاقة التي تتحكّم بها القوى الكبرى.

 

تفكيك الحزب كمدخل لإعادة إنتاج الوصاية

 

لإسرائيل، تفكيك حزب الله ليس مجرد إزالة عائق أمني، بل إعادة فتح الباب لزمن الوصاية. فمنذ انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، لم تتوقف تل أبيب عن البحث عن صيغة للعودة غير المباشرة. فإذا كان الاحتلال العسكري قد فشل، فإن احتلال الموارد والسيادة الاقتصادية قد يكون البديل الأكثر نظافة وكلفة أقل. هنا، يأتي دور مشاريع الطاقة، وعلى رأسها البلوك 9، باعتبارها البوابة الطبيعية لفرض وصاية اقتصادية جديدة

 

إن تفكيك الحزب، إن حدث، لن يقود إلى استقرار كما يتخيّل البعض، بل إلى فراغ أمني تستثمره القوى الدولية لإعادة تدوير النفوذ. ولعل أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن يتحوّل الجنوب اللبناني، الخالي من المقاومة، إلى مسرح مفتوح للتجاذبات الأمنية، تماماً كما حدث في العراق بعد حلّ الجيش عام 2003.

 

ففي غياب حزب الله، لن يكون هناك كابح جدي أمام التوغلات الإسرائيلية أو أمام استباحة السيادة الجوية والبحرية. والأسوأ أن إسرائيل قد تنجح في بناء شبكات سياسية داخل لبنان، مستخدمة المال النفطي والغازي، لإعادة إنتاج نسخة من الوصاية الاقتصادية التي عرفها البلد في مراحل سابقة ولكن بأدوات أكثر نعومة

 

الخطورة هنا لا تكمن في قوة إسرائيل وحدها، بل في هشاشة الداخل اللبناني. تفكيك الحزب سيكشف حقيقة أن الدولة اللبنانية غير قادرة على إدارة توازناتها الداخلية ولا حماية مواردها. وحين يلتقي الضعف الداخلي مع الطمع الخارجي، تكون النتيجة وصاية كاملة، عنوانها: من يريد نصيبه من البلوك 9 فليدخل عبر البوابة الإسرائيلية

 

استشراف المشهد: لبنان بلا حزب الله

 

في قراءة استشرافية، يمكن تصور ثلاثة مسارات في حال مضت الضغوط باتجاه تفكيك الحزب. الأول، أن يقود التفكيك إلى حرب أهلية جديدة، إذ إن القوى التي بنت مشروعها على المقاومة سترى في أي محاولة لإلغائه إلغاءً لوجودها، ما يعني عودة لبنان إلى مشهد الدم والانقسام. الثاني، أن ينهار التوازن الإقليمي ويُترك لبنان لقمة سائغة في يد إسرائيل، بما يعني إدماجه تدريجياً في شبكات الطاقة والاقتصاد الإسرائيلي. الثالث، أن ينشأ فراغ أمني كبير تستغله قوى دولية أخرى لتثبيت موطئ قدم مباشر في لبنان عبر مشاريع إعادة الإعمار والغاز.

 

في كل هذه السيناريوهات، يحذر المؤيدون لحزب لله أن لبنان لن يكون أكثر استقراراً أو سيادة، بل لبنان أكثر ضعفاً وتبعية. في رأيهم، قد يربح اللبنانيون استقراراً شكلياً يسمح بالتنقيب والاستخراج من البلوك 9، لكنهم سيخسرون جوهر السيادة، إذ سيكون القرار الحقيقي بيد الشركات المتحالفة مع إسرائيل والدول الكبرى، لا بيد الدولة اللبنانية.

 

وإذا أردنا النظر أبعد، فإن تفكيك الحزب سيؤدي إلى إعادة تشكيل الخريطة السياسية اللبنانية على نحو يسمح بعودة الطائفية الاقتصادية كصيغة جديدة: أي أن تُوزع عوائد الغاز والنفط لا على أساس وطني جامع، بل وفق محاصصات طائفية مدعومة من الخارج. هنا يصبح البلوك 9، الذي كان من المفترض أن يكون ثروة وطنية، أداة تفجير جديدة للنظام السياسي اللبناني

 

سوق الطاقة

 

إن الحديث عن تفكيك حزب الله ليس نقاشاً داخلياً فحسب، بل مشروع خارجي يرتبط عضوياً بالتحولات في سوق الطاقة وبالطموحات الإسرائيلية في السيطرة على موارد لبنان. والبلوك 9 ليس مجرد حقل غاز، بل اختبار للسيادة اللبنانية في معناها الأعمق: هل يمكن للبنان أن يكون بلداً حراً في تقرير مصيره الاقتصادي والسياسي، أم أنه محكوم بأن يصبح هامشاً في خريطة الطاقة التي ترسمها إسرائيل والقوى الكبرى؟

 

في المحصلة، كل محاولة لتفكيك الحزب دون بناء دولة قوية وشفافة وعادلة لن تكون سوى وصفة لإعادة لبنان إلى دوامة التبعية والفوضى. وإذا كان المستقبل يُقاس بقدرة الشعوب على حماية مواردها، فإن مصير البلوك 9 سيبقى مؤشراً حاسماً: إما أن يتحول إلى بوابة استقلال اقتصادي، أو أن يغدو فخاً لإعادة إنتاج الوصاية بأدوات جديدة.