الضجيج الرقمي: كيف تختار بوصلة الاهتمام في زمن “الترند”؟

الضجيج الرقمي: كيف تختار بوصلة الاهتمام في زمن “الترند”؟

#صفاءالليثي تكتب

الضجيج الرقمي: كيف تختار بوصلة الاهتمام في زمن “الترند”؟

في عصر تتدفق فيه المعلومات بلا توقف، أصبح “الترند” أو “المحتوى الرائج” القوة المحركة للحديث العام. تتسارع وتيرة الأحداث، وتنتشر القصص في لمح البصر، لتسيطر على مساحات واسعة من اهتمامنا الجماعي. وبينما يبدو بعض هذه القصص عفويًا وبريئًا، يطرح المشهد بأكمله سؤالًا جوهريًا: ما الذي يحدد قيمة ما نلتفت إليه وما نتجاهله؟

إن هذا الاندفاع نحو تبني كل ما هو رائج يفتح الباب أمام نقاش أعمق حول التأثير الموجه، سواء كان مباشرًا أو غير مباشر. فكما يشير العديد من الخبراء، لم تعد المعارك تقتصر على الأدوات التقليدية، بل امتدت لتشمل الأدوات الناعمة، وفي مقدمتها المحتوى الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي. يمكن للقصص البسيطة، التي تبدو عفوية في ظاهرها، أن تتحول إلى حملات مدروسة لتشكيل الرأي العام، وتوجيه الوعي الجمعي بعيدًا عن القضايا الأكثر أهمية.

وفي هذا السياق، يأتي كتاب “من يدفع للزمار؟: وكالة المخابرات المركزية والحرب الباردة الثقافية” للكاتبة البريطانية فرانسيس ستونور سوندرز ليقدم رؤية تاريخية عميقة. يكشف الكتاب، الصادر عام 1999، كيف وظّفت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) الفن والثقافة والإعلام كسلاح ناعم خلال الحرب الباردة. فقد موّلت الوكالة، عبر منظمات واجهة ومؤسسات خيرية مثل “مؤسسة فورد”، الأنشطة الثقافية والأدبية في أوروبا والعالم للتأثير على المثقفين والرأي العام، ونشر قيم معينة لمواجهة الاتحاد السوفيتي. وتؤكد سوندرز في كتابها أن الدعاية الأكثر فاعلية هي التي تجعل الفرد يتحرك في الاتجاه المطلوب لأسباب يعتقد أنها نابعة من قناعته الشخصية.

وعندما نطبق هذه الرؤية على ما نعيشه اليوم، نجد أن التناقض الصارخ بين ما يجذب اهتمام الجمهور وما يجب أن يجذبه، يدفعنا للتساؤل: هل نختار نحن ما نشاهده، أم يتم اختيار ما يُعرض علينا؟

إن الانغماس في المحتوى السطحي وتجاهل النماذج المُلهمة لا يشكل تهديدًا بسيطًا، بل قد يؤدي إلى تسطيح الوعي العام، وتغيير بوصلة القيم المجتمعية. ففي الوقت الذي تتربع فيه قصص شخصيات عادية على عرش “الترند” لأيام، لا تحصل قصص النجاح الحقيقي على نفس الاهتمام. ففي مصر مثلًا، لم يحظَ تفوق الطفلة سوسن أحمد، التي تخرجت في الجامعة بسن 12 عامًا، بنفس الضجيج الذي أحاط بغيرها من القصص الأقل قيمة. ولم يُسلط الضوء بشكل كافٍ على إنجازات الطفل جوني ماجد، الحائز على المركز الأول عالميًا في الرياضيات. كما أن قصة الشاب إسماعيل رسلان الذي خاطر بحياته لإنقاذ 14 طفلًا من الغرق، لم تتحول إلى “ترند” يجسد قيم الشجاعة والإيثار.

هذا التناقض الصارخ بين ما يجذب اهتمام الجمهور وما يجب أن يجذبه، يدفعنا للتساؤل: هل نختار نحن ما نشاهده، أم يتم اختيار ما يُعرض علينا؟

إن الانغماس في المحتوى السطحي وتجاهل النماذج المُلهمة لا يشكل تهديدًا بسيطًا، بل قد يؤدي إلى تسطيح الوعي العام، وتغيير بوصلة القيم المجتمعية. عندما يصبح النجاح يُقاس بعدد المشاهدات والتفاعلات على حساب الإنجازات الحقيقية، فإننا نخاطر بتهميش النماذج المضيئة واستبدالها بالنماذج التافهة.

يجب أن نكون أكثر وعيًا وقدرة على التمييز. الذكاء الجمعي يكمن في قدرة المجتمع على انتقاء ما يستحق الاهتمام والاحتفاء به، ورفض ما هو مجرد ضجيج عابر. علينا أن نسأل أنفسنا دائمًا: هل هذا المحتوى يضيف قيمة؟ هل يعكس قيمنا النبيلة؟ وهل يساهم في بناء مجتمع أفضل؟

إن إعادة توجيه اهتمامنا نحو القصص التي تعكس الإنجاز، والعلم، والشجاعة، والإنسانية، هو مسؤوليتنا الجماعية. ففي النهاية، ما نراه ونهتم به على الشاشات هو انعكاس لقيمنا، وما نختاره ليكون “ترند” اليوم، سيشكل وعي أجيال الغد.