أوهن البيوت لبيت العنكبوت: هجرة النبي “صل الله عليه وسلم” ونصرة الله
بقلم..د.. صفاء الليثي
أوهن البيوت لبيت العنكبوت: هجرة النبي “صل الله عليه وسلم” ونصرة الله
يُضرب المثل القائل “أوهن البيوت لبيت العنكبوت” ليدل على الضعف والوهن الشديد، ورغم أن هذا المثل يعكس حقيقة مادية واضحة، إلا أن الله سبحانه وتعالى قد جعل من بيت العنكبوت الوهين سببًا في نصرة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في أحلك الظروف وأصعبها، وذلك خلال رحلة الهجرة النبوية المباركة من مكة إلى المدينة المنورة. هذه الرحلة لم تكن مجرد انتقال جغرافي، بل كانت تحولًا تاريخيًا ودينيًا غيّر مجرى البشرية، وكانت معجزة إلهية تتجلى فيها عظيم قدرة الله وتدبيره.
المؤامرة والقرار الإلهي
بعد ثلاث عشرة سنة من الدعوة في مكة، عانى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من صنوف الأذى والتضييق من قريش. بلغت المؤامرات أوجها حين اجتمع سادة قريش في دار الندوة وقرروا قتل النبي صلى الله عليه وسلم لمنع انتشار دعوته. كانوا يظنون أنهم بذلك سيقضون على الإسلام في مهده. ولكن الله، المدبر الحكيم، أذن لنبيه بالهجرة. جاء جبريل عليه السلام ليخبر النبي بقرار الهجرة، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته ليلًا، مخترقًا صفوف المتربصين به من قريش، الذين أعمى الله أبصارهم عنه.
طريق الهجرة وصحبة الصديق
لم تكن الهجرة رحلة سهلة أو آمنة. بل كانت محفوفة بالمخاطر والتحديات. اختار النبي صلى الله عليه وسلم رفيقه أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليشاركه هذه الرحلة المباركة، ليكون أول ركائز الدولة الإسلامية الجديدة. لم يسلكا الطريق المعتاد، بل اتجها جنوبًا إلى غار ثور، على عكس المتوقع من قريش التي كانت تترقب في طريق الشمال نحو المدينة.
غار ثور ومعجزة العنكبوت والحمامة
في غار ثور، مكث النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثلاثة أيام، وكان المشركون يلاحقونهم بضراوة، وقد وصلوا إلى فم الغار. هنا تجلت إحدى أعظم آيات الله ومعجزاته. فبقدرة الله تعالى، نسجت العنكبوت خيوطها على فم الغار، ووضعت حمامة بيضها، مما أوهم المشركين بأن الغار لم يدخله أحد منذ زمن بعيد.
وعندما نظر المشركون إلى فم الغار، رأوا نسيج العنكبوت وبيض الحمامة، فقال بعضهم: “لو دخل هنا أحد، لفضّ هذا النسيج ولطار هذا الحمام”. وهكذا، انصرفوا عن الغار، ظنًا منهم أنه خالٍ، ولم يعلموا أن نبي الله وخليله يتواجدان في داخله بسلام وأمان تحت رعاية الله وعنايته.
إن بيت العنكبوت الذي هو “أوهن البيوت” في منطق البشر، أصبح بحول الله وقوته، أقوى حصن منيع لحماية سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. هذه الحادثة ليست مجرد قصة، بل هي درس عظيم في التوكل على الله، وفي أن الأسباب المادية لا قيمة لها أمام الإرادة الإلهية. فقدّر الله أن يكون هذا الكائن الصغير الوهين سببًا في نجاة النبي صلى الله عليه وسلم، ليعلمنا أن نصر الله لا يعتمد على قوة الأسباب الظاهرة، بل على عظيم قدرته.
دروس وعبر من الهجرة
تزخر قصة الهجرة النبوية بالعديد من الدروس والعبر، منها:
* التوكل على الله: جسدت الهجرة أسمى معاني التوكل على الله والثقة بنصره، حتى في أحلك الظروف.
* التضحية والفداء: أظهر الصحابة الكرام، وفي مقدمتهم أبو بكر الصديق، أروع صور التضحية والفداء في سبيل الله ونبيه.
* الأخذ بالأسباب: رغم الاعتماد على الله، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بكل الأسباب المتاحة، فخطط للرحلة واختار الرفيق والدليل.
* الإعداد للدولة: لم تكن الهجرة مجرد فرار، بل كانت إعدادًا لتأسيس دولة الإسلام في المدينة المنورة، ووضع اللبنات الأولى لمجتمع يقوم على العدل والمساواة.
* معجزات الله: تبرز الهجرة كيف يتدخل الله سبحانه وتعالى في اللحظات الحاسمة، ويجعل من أضعف الأشياء سببًا للنصر.
لقد كانت هجرة النبي صل الله عليه وسلم حدثًا مفصليًا في تاريخ الإسلام، حيث تحولت الدعوة من مرحلة الاضطهاد إلى مرحلة التمكين. وظلت قصة غار ثور وبيت العنكبوت معجزة تتناقلها الأجيال، تذكرنا بأن نصر الله آتٍ لا محالة، وأن الله غالب على أمره ولو كره الكافرون. فمهما بدت الأسباب واهية أو ضعيفة في نظر البشر، فإنها إذا اقترنت بإرادة الله تعالى، أصبحت قوة لا تُقهر، مصداقًا لقوله تعالى في سورة العنكبوت: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 41]. ولكن في قصة الهجرة، أصبح هذا البيت الوهين علامة على عظيم تدبير الله ونصرته.