الغربي عمران 

الغربي عمران 

الفصل الثاني 

رواية بقلم فرحات جنيدي

الغربي عمران 

العشاء انفضّ، والمآذن أطفأت صوتها، والسوق يتثاءب كوحشٍ أنهكه النهار.

أبواب الدكاكين تُغلق ببطء، والكلوبات المعلقة تهتزّ مع نسمة الليل، تضوي وتخفت كأنها قلوبٌ خائفة من المجهول.

رائحة العرق تختلط ببقايا الفاكهة والماء الراكد، وصوت خطواتٍ متباعدة ينساب بين الأزقة مثل همسٍ في صدرٍ مريض.

حتى الصمت في السوق له ضجيج.

 

من شرفته العالية، جلس عبدالله طايع يتفرّج.

الكرسي الخشبي يهتز تحت جسده، وكوب الشاي على الطاولة يرسل بخاره في الهواء.

الليلة كانت كما يحبها تمامًا: لا بيع ولا شراء، بل حسابات تصنعها المعارك الصغيرة.

ضحك وهو يرى عند ناصية السوق زحامًا يعلو صوته.

مدّ يده لصبيّه وقال:

هاتلي كوباية شاي تانية يا واد يا داهش… شكلها ليلة دسمة.

ثم أشعل سيجارته، وتابع المشهد بعينٍ تلمع مكرًا:

لما الغلابة ياكلوا في بعض، السوق يرتاح… وأنا كمان.

 

عند الطرف الآخر، كان عبد ربه عبد البر يعدّ صناديق الفاكهة.

رجل قصير العنق، صوته عالٍ، وكأن الغضب يسكن صدره من يوم مولده.

مرَّ شاب نحيف، وجهه شاحب وعيناه تائهتان، اصطدم به دون قصد.

اهتزّ الكلوب المعلق فوق الصناديق وسقط، فتطاير الزجاج وتناثر الضوء كشرارة حرب.

صرخ عبد ربه، والعصا في يده ترتجف:

يا ابن الكلب! مش شايف قدامك؟

ولم ينتظر جوابًا، رفع عصاه وضربه مرتين كأنهما صفعتان من القدر.

 

ارتدّ الشاب للخلف، والدم يسيل على وجهه، وركض لا يعرف أين يذهب.

تعثر عند باب دكانٍ صغير، يجلس أمامه جابر أبو جلال، رجلٌ يعرف الخسارة كما يعرف اسمه، ويمضغ الغِلّ منذ سنين.

رأى الدم، فابتسم وقال لنفسه:

يا سلام… الرزق جالي برجليه.

نهض فجأة، وصفق بيديه وهو يصيح:

يا رجاله! يا ولاد عمي! عبد ربه ضرب واحد مننا!

 

لم تمر دقائق حتى كانت الأزقة تضجّ برجالٍ يحملون العصيّ والشوم.

جماعة “الهِلّة ” من أبناء سوهاج من جهة، جماعة “الزرابي” من أبناء أسيوط من الجهة التانية.

الأقدام تدقّ الأرض، والغبار يعلو، والشتائم تتطاير كالرصاص.

في المقابل، كان عبد ربه يلمّ رجاله ويصرخ:

الليلة نوريهم مين سيد السوق!