الجوار فى الشريعة الإسلامية ” جزء 2″

الدكرورى يكتب منزلة الجوار فى الشريعة الإسلامية ” جزء 2″
بقلم / محمـــد الدكــــرورى

الجوار فى الشريعة الإسلامية ” جزء 2″

ونكمل الجزء الثانى مع منزلة الجوار فى الشريعة الإسلامية، ففي هذا الزمن تباعد الجيران بعضهم عن بعض، فأصبحت تمر الشهور بل السنوات، ولا يعرف الواحد منا جاره وأحواله، بينما في بعض الأحياء كثرت شكاوى بعض الجيران ممن جاورهم لأمور متعددة، كاطلاع على العورات، أو روائح مؤذية، أو مشاكل الأولاد، أو رمي القمامة أمام منزل الجار، أو إغلاق مدخل سيارته، أو غير ذلك من صور الإيذاء، ولقد كانت العرب تفتخر بحماية الجار وأمنه لهم، فقال الأوزاعى رحمه الله تعالى قد قال شاعر من العرب يذكر فخر قومه، ويذكر أمن جارهم فيهم، ويمثل ذلك بحمام مكة في الأمن، فقال يرى الجار فيهم أمنا من عدوه، كما أمنت عند الحطيم حمامها”

ومن لوازم ذلك غض البصر، وعدم الاطلاع على عورات الجيران من نوافذ وغيرها، فيقول قائل “فإذا شئت أن ترقى جدارك مرة لأمر، فآذن جار بيتك من قبل” ولقد كان العرب يضربون المثل في حسن الجوار بجار أبي دؤاد، وهو كعب بن مامة، فيقولون في مثَلهم السائر، جار كجار أبي دؤاد، فإن كعبا كان إذا جاوره رجل فمات وداه، وإن هلك له بعير أو شاة، أخلف عليه، فجاءه أبو دؤاد الشاعر مجاورا له، فكان كعب يفعل به ذلك، فضربت العرب به المثل في حُسن الجوار، فقالوا جار كجار أبي دؤاد، وقال قيس بن زهير، أطوف ما أطوف ثم آوى، إلى جار كجار أبي دؤاد، بل لقد غالى العرب وبالغوا في المحاماة عن الجار، إذ لم تتوقف محاماتهم عن الجار الإنسان، بل لقد تعدوا ذلك.

فأجاروا ما ليس بإنسان إذا نزل حول بيوتهم، حتى ولو كان لا يعقل ولا يستجير، مبالغة في الكرامة والعزة، وتحديا لأحد أن يخفر الجوار، مثلما فعل مدلج بن سويد الطائي الذي نزل الجراد حول خبائه، فمنع أحدا أن يصيده حتى طار وبَعُد عنه، وكان كليب يجير الصيد فلا يعرض له أحد، وإن الجوار يقتضي حقا ما تقتضيه أخوة الإسلام، فيستحق الجار المسلم ما يستحقه كل مسلم وزيادة بالمجاورة، وليس حق الجوار كف الأذى فقط، بل احتمال الأذى والرفق، وابتداء الخير، وأن يبدأ جاره بالسلام، ولا يطيل معه الكلام، ويعوده في المرض، ويعزيه في المصيبة، ويهنئه في الفرح، ويصفح عن زلاته، ولا يطلع إلى داره، ولا يضايقه في وضع الخشب على جداره، ولا في صب الماء في ميزابه.

ولا في طرح التراب في فنائه، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، ويستر ما ينكشف من عورته، ولا يتسمّع عليه كلامه، ويغض طرفه عن حرمه، ويلاحظ حوائج أهله إذا غاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه” وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره” وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك” رواه مسلم، وفي لفظ ابن حبان “فإنه أوسع للأهل والجيران” فإنه لأدب رفيع أن تحسن إلى جارك وتتصدق عليه فتطعمه مما تطعم، وتفرحه إذا فرحت وتهدي إليه إذا أهديت لأبنائك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالا فريدا في الإحسان إلى الجار

وحفظ حقوقه ورعاية مصالحه والسؤال عنه، بل كان يعود جيرانه من اليهود والمشركين ويجيب دعوتهم ويحسن عشرتهم، ويتصدق عليهم ويهدي إليهم، ويهش لهم إذا لاقاهم ويخصهم بالخير، فقد آذاه جيرانه في مكة فخرج إلى الطائف فسلطوا عليه سفهاءهم، يرمونه بالحجارة فيجد من الأذى والشدة ما لا يجده في غيره، ويأتيه جبريل عليه السلام يستأمره بإطباق الأخشبين عليهم فيمتنع من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد حقق السلف الصالح والكرام حق الجوار أتم تحقيق وأحسنه، إذ كانوا أكثر مراعاة لحقوق المسلمين وحرماتهم ومصالحهم، فقال الله تعالى كما جاء فى سورة الحشر ” ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”