الغربي عمران
رواية بقلم فرحات جنيدي
الفصل الأول
الغربي عمران
لم يكن الفجر فجرًا…كان صفعةً على وجه المدينة التي نسيت طعم النوم.
استيقظ السوق أولًا، كوحشٍ يلعق دماءه قبل أن يخرج للصيد.
صوت العجلات الحديدية على الأرض الرطبة، صراخ الباعة، سُباب الحمالين، ورائحةٌ كأنها خليط من العرق والليمون والعفن والجشع… مزيجٌ لا يمكن غسله حتى بالمطر.
السوق يمتد كأفعى ضخمة تلتف حول شوارع الحيّ القديم، بطونها صناديق الفاكهة، ولسانها نداء الباعة.
الأرض مبتلة بعصيرٍ منسكب من برتقالٍ فاسد، والذباب هنا لا يطير بل يقيم إقامة دائمة.
الخُضَر تفقد ألوانها قبل الظهر، والوجوه تُشبه البضائع التي تبيعها: باهتة، منهكة، تُخفي وراءها ألف حيلةٍ ووجع.
الهواء ثقيل كدينٍ قديم، والعرق يسيل على الأجساد كما تسيل الرشاوى في المكاتب البعيدة.
هنا، لا أحد يسمع أحدًا… الأصوات تتصادم، وتتعالى فوق كل معنى، كأن كل روحٍ تصرخ لتبقى حية.
كل شيء يلمع في هذا المكان إلا الضمائر.
في هذا الجحيم، لا تُرفع الرؤوس إلا للنقود.
الضحك هنا ليس فرحًا، بل انتصارًا على مغفَّلٍ خُدع.
أما الرحمة، فهي لا تدخل السوق إلا متنكرة في هيئة زبونٍ بسيطٍ جائعٍ جاء يبحث عن بقايا الخضار التي تعفَّن عنها التجار، يطلب الشفقة بعينٍ منكسرة، فلا يجدها.
وفي قلب هذا الجحيم، على عرشه الخشبي المائل، جلس عبدالله طايع.
كرسيٌّ مرتفع، مكتبٌ لامع كضميرٍ تم تلميعه قبل بيعه، وعينان كمقصّين حادّين يقطعان الطريق على كل من يفكر أن ينافسه.
جاء من الصعيد حافيًا، بثوبٍ باهتٍ ووجهٍ يعرف الجوع أكثر مما يعرف النوم.
بدأ بعربة موز، ثم دكانٍ صغير، حتى التهم السوق كله حجرًا حجرًا.
الناس هنا لا تناديه باسمه، بل بلقبه: الحاج عبدالله — رغم أنه لم يحج قط، ولم يُرَ ساجدًا حتى في صلاة جمعة.
يدفع الإتاوات كما تُؤدى الصلوات… لا خوفًا ولا حبًا، بل شراكةً مع من يُسهِّل له الاستيلاء على أراضي الدولة ومقدراتها.
لكن السوق — مثل العاصمة — لا يحكمه رجلٌ واحد.
فوق، حيث الهواء أبرد والضمائر أدفأ بالرشاوى، يجلس أبو زيد عبد المقصود، موظف التموين الكبير.
وجهه أملس كالعملة الجديدة، ولسانه مدهون بالعسل والسم معًا، يبيع توقيعه بالابتسامة، وختمه بالهمس.
وكان لقاؤهما الأول يشبه توقيعَ عقدٍ مع الشيطان نفسه.
مدَّ عبدالله ظرفًا سمينًا وقال بصوتٍ يشبه القسم:
“افتح لي الباب يا باشا… وأنا أخلّي السوق كله يشتغل تحت عينك.”
ضحك أبو زيد، ومسح على شاربه برفقٍ كمن يقلب ورقةَ رابحٍ في يده، وردّ بثقةٍ باردة:
“بس السوق ليه عيون كتير.”
قال عبدالله وهو يبتسم ابتسامةً لم تصل لعينيه:
“الفلوس بتعمّي العيون يا بيه… وبتخلي الحرام حلال.”
ثم سكت السوق للحظةٍ كأنه سمع اتفاقهما…
لحظة واحدة فقط، قبل أن يعود الصخب، وتبدأ الحكاية.
الي اللقاء في الفصل الثاني