الغربي عمران “الجزء الرابع”
#رواية بقلم #فرحات_جنيدي
الغربي عمران “الجزء الرابع”
كان الصباح في المدينة ثقيلاً، رمادياً، كأنه يخرج من رئةٍ امتلأت بدخان السنين.
في نهاية السوق، حيث تتقاطع الأصوات وتختلط الروائح، يمتد ميدان الترولي الذي يفصل بين إمبابة القديمة، التي أخذت اسم الجزيرة وقُسّمت إلى ثلاث مناطق: أرض عزيز عزّت، وتاج الدول، والكيت كات، وبين إمبابة الجديدة المنيرة الغربية والشرقية.
يقف الميدان كذاكرةٍ تصرّ على البقاء.
المساكن المتآكلة تطلّ عليه من كل جانب؛ شرفاتٌ معلّقةٌ بخيوطٍ صدئة، وجدرانٌ تحمل أسماءً باهتة لأصحابٍ رحلوا، وملابسٌ تتدلّى كأعلام استسلامٍ على حبالٍ واهية.
في طرف الميدان، يقف مخبز الجمعية البلدي، ذلك الوحش الحديدي الذي يبتلع الناس كل صباح.
صفوفٌ طويلة تمتد أمامه؛ نساءٌ يتشاجرن على الرغيف، رجالٌ يتنفسون الغضب، وأطفالٌ يركضون بين الأقدام بحثًا عن نهايةٍ للطابور أو بدايةٍ ليومٍ كريم.
تختلط رائحة الدقيق بالعرق، والغضب بالانتظار، والسماء بالطحين العالق في الهواء.
وبالقرب من المخبز، تنتصب مديرية التموين، مبنى حكومي قديم بلون الغبار، تتسلّق جدرانه لافتاتٌ باهتة.
من هناك يُدار الخبز… وتُدار معه المدينة.
في الطابق الثالث، كان مكتب أبو زيد عبد المقصود يطلّ على الميدان كعينٍ لا تنام.
ومن تلك العين، تُرى المدينة كما يجب أن تُرى:
صفوف الجياع في الأسفل… وأختام السلطة في الأعلى.
في المساء، تسلّل الضوء الشاحب من بين الغيوم إلى شرفة شقة أبو زيد المطلة على الميدان.
جلس أبو زيد وعزوز الملواني، مدير قسم التعاقدات في مجلس المدينة، على مقعدين من القشّ.
بجوارهما سلة امتلأت ببقايا السجائر، ورائحة القهوة تختلط برائحة المؤامرة.
قال أبو زيد، وهو ينفث دخان سيجارته كمن يرسم خريطة في الهواء:
المكان اللي ورا مبنى الصحّة خلاص هيكون من نصيب عبد الله طايع… الورق خلص، والمزايدة شكلية. إحنا بس هنمرّر الأختام في طريقها المعتاد.
ابتسم عزوز ابتسامةً مائلة، فيها خوفٌ خفيّ أكثر مما فيها رضا:
والمفتاح يا سيدي؟
ضحك أبو زيد، وهزّ رأسه كمن يعلّم تلميذًا في مدرسة الفساد:
المفتاح؟ مش في الخزنة يا عزوز… المفتاح في الناس اللي جعانة ومش فاضية تسأل.
الناس لما تشبع بتتكلم، لكن طول ما هي جعانة… بتسكت وتبلع.
انحنى عزوز للأمام، يحدّق في وجه أبو زيد بعينٍ تشبه عين ثعلبٍ عجوز، ثم قال بخبثٍ ناعم:
يعني نخلّيهم جعانين… عشان نفضل إحنا الشبعانين؟
أجابه أبو زيد بابتسامةٍ باردةٍ كالموت:
يا ابني، دي المعادلة اللي ما بتتغيرش…
المدينة دي زي المخبز اللي تحتنا، لازم النار تفضل مولّعة عشان العيش يطلع ناضج.
ضحك الاثنان، ضحكةً قصيرة، مكتومة، كأنها تخرج من جوف الشيطان.
في الأسفل، كان الميدان يضجّ بالحياة الليلية.
الباعة يفترشون الأرض، وأصوات الميكروفونات تختلط بصفير أوتوبيس 104 أبو مقطورة وهو ينعطف في آخر الخط، تتمايل المقطورة خلفه كذيلٍ حديديٍّ متعب.
في أحد أركان الميدان، كان السباعي رضوان، بائع حمص الشام، يجهّز عربته الخشبية.
يضع القدر النحاسي فوق الموقد، والبخار يتصاعد كأن الميدان يتنفس من خلاله.
وبعد أن ينتهي، يفتح الصندوق الخشبي الذي وضعت الدولة داخله تلفزيون الجمعية . نافذة صغيرة على عالمٍ بعيد.
تبدأ الشاشة تضيء، فيلتف حولها الأطفال والنساء وبعض الشباب والعجائز، كأنهم أمام محرابٍ جديدٍ من ضوءٍ وسحر.
ومن بينهم يقف لمونة، صبيّ عزيزة الأشْموني، عيونه تلمع كمن يرى الحلم على شاشة صغيرة.
تصرخ أمه من بعيد:
قوم اشتغل يا لمونة، عايزة آكل مش عايزة أفلام!
فيردّ، دون أن يرفع عينيه عن التلفزيون:
يا أمي، شوفي سعاد! راحت بعاصم ابنها لمكاتب الكومبارس، ومرة في مرة الولد بقى يمثل!
وأنا… أنا كمان ممكن أبقى ممثل زيه وأحسن منه ألف مرة!
تقترب منه، تضربه على كتفه بغلٍّ مشوبٍ بالحنان:
إنتَ هتفضل صبيّي لحد ما تموت… ممثل إيه وانتَ مش قادر تجيب رغيف؟
وان كان على عاصم، فـ يحيى شاهين شغله عشان خاطر خاله علوبة صاحب البيت اللي آخر الشارع،
اللي كان ساكن فيه يحيى شاهين.
إنت بقى مين يخدمك؟ ومين قريبك يا مقطوع يا ولد المقاطيع؟!
يعلو صوته، ويعلو صوتها، حتى تتعالى صيحات الناس:
اسكتوا يا لمونة، المسلسل بدأ!”
يا ستّ حلاوتهم، خلّيه يخرس ولا هنبلّغ السباعي يطردكم!
فتنطفئ الأصوات شيئًا فشيئًا، ولا يبقى إلا ضوء التلفزيون يرقص على الوجوه المرهقة.
في تلك اللحظة، يدخل أوتوبيس 104 أبو مقطورة من نهاية الشارع، كوحشٍ معدنيٍّ يعود من معركةٍ طويلة.
يهبط منه الغربي عمران بصحبة خليل الحاوي، لصّ الركايب المعروف.
كان خليل يضحك ويقول وهو يشير إلى الميدان:
دي المنيرة يا عمران! أولها السوق وآخرها الترولي…
والخير كله بيجي من الغيطان اللي حوالين المنيرة وامبابة كلها!
كل حمار أو فرس يدخل السوق ده رزق ماشي على الأرض بيدور على اللي ياخده!
ابتسم الغربي بعينٍ مندهشة كطفلٍ يرى المدينة لأول مرة من فوق ظهر الدنيا، لا من تحتها.
كان يشعر بالامتلاء… بالدهشة… كأن الحديد والنور والغبار يغنّون له أغنية البداية.
قال خليل وهو يغمز:
هكملك المتعة بسهرة ما حصلتش… هخليك تشوف التلفزيون بعينك يا ولد عمران!
تهلّل وجه الغربي كمن وعدوه بزيارة الجنة، وجلسا قرب عربة الحمص، خلف لمونة مباشرة، حيث يتلألأ الضوء على وجوه المشاهدين.
لكن السكون لم يدم طويلاً…
اقترب داهش، صبي عبد الله طايع، ضاحكًا وهو يصرخ في أذن لمونة:
قاعد تتفرج؟! أمك عزيزة مسكت فيها النار والبيت ولّع!
انتفض لمونة، عيونه تتسع، صوته يخرج ممزقًا:
الكلام ده بجد؟ مين اللي عمل كده؟!
أجابه داهش بابتسامةٍ ماكرة:
الغريب اللي ظهر في السوق الأسبوع اللي فات…
ما فيش غيره… اللي اسمه الغربي عمران!
ساد الصمت كأن المدينة كلها حبست أنفاسها، خاصة بعدما امتلأ الميدان برجال الشرطة.
التفت خليل نحو الغربي فوجده واقفًا كالتمثال، فظنّ للحظة أنه هو الفاعل.
لكن كيف؟! وهو الذي كان معه منذ الصباح؟
ثم التقت عيناه بعيني داهش، فصاح خليل وسط الجموع المرتجفة:
الغربي عمران من الصبح في الأتوبيس 104 أبو مقطورة معايا! ما كنش العفريت بتاعي!
صاح داهش:
اهي الحكومة جات!
واختلطت الصيحات بصوت صفارات الشرطة التي ملأت الميدان.
قال الضابط بصوتٍ حادّ:
بصّوا! هناك… حاجة بتنزل من فوق!
يلا يا شباب ساعدوني، إحنا جانا بلاغ إنهم جواسيس!
كان الضوء يلمع فوق الغيطان المبتلّة، وأجسامٌ صغيرة تهبط ببطءٍ في الهواء.
أطفال الميدان صاحوا في ذعر:
يهود! نازلين من السما!
جرى الغربي في اتجاه الحقول، خاض في الطين حتى الركبتين، يتبعه خليل وحشدٌ من الرجال.
صراخ، وطلقات بعيدة، وأجساد تهبط كالكوابيس من السماء.
وحين لامست الأرض، انقضّ عليهم الرجال بالعصي والحجارة، بينما طلقات الشرطة تشقّ صمت الليل.
ارتفعت صيحات النصر الأولى في إمبابة:
مسكناهم! جواسيس!.. جواسيس!
وفي قلب الميدان، وقف أبو زيد عبد المقصود وعزوز الملواني يشاهدان المشهد من الشرفة.
أطفأ أبو زيد سيجارته وقال وهو يلتفت لعزوز:
بلغت القسم من نص ساعة… كنت حاسس إن اللي في الغيطان مش طُيّبين.
هزّ عزوز رأسه بانبهارٍ خبيث:
وإنت دايمًا سبّاق يا بيه… حتى في البطولة.
لم تمر دقائق حتى عاد الضابط وسط الزحام، يرافقه جنود يحملون ثلاثة من الجواسيس المقيدين بالطين والسلاسل.
اقترب من أبو زيد الذي حضر إلى الميدان ليحصد البطولة، وصافحه بحرارة:
تحية ليك يا أستاذ أبو زيد… بلاغك أنقذ المدينة.
وده دليل إن لسه في ناس بتخاف على بلدها.
ثم التفت نحو الغربي عمران، الذي كان يجرّ اثنين من الجواسيس، والطين يغطّي قدميه كوسامٍ على بطولةٍ مفاجئة.
ربّت الضابط على كتفه قائلاً:
برافو يا بطل… البلد دي لسه فيها رجالة! اسمك إيه؟
رفع الغربي رأسه وقال بصوتٍ خافتٍ ثابت:
اسمي الغربي عمران.
صفّق الناس، وزغردت حلاوتهم أم لمونة وسط الزحام.
وقف أبو زيد خلف الضابط، يبتسم ابتسامةً صغيرة متحفظة، كمن يقتنص جزءًا من النصر دون أن يتسخ بالطين.
لكن الصمت عاد فجأة.
صرخةٌ واحدة شقّت الميدان، صرخةٌ تحمل رائحة الدخان والبكاء.
كان لمونة الذي هرول إلى بيت عزيزة الأشْموني وعاد بوجهه ملوّث بالسواد، وعيناه تبرقان كجمرتين.
اندفع بين الناس، أشار إلى الغربي عمران وصوته يرتجف:
يا باشاااا! هو ده! هو اللي ولّع في البيت! هو اللي حرّق أمي عزيزة الأشْموني!
تجمّد الميدان.
الأعين كلها التفتت إلى الغربي.
الضابط نظر إليه في صمتٍ متوتر، بينما كان أبو زيد يطفئ سيجارته ببطء، ينفث دخانها في الهواء، ويقول لعزوز بصوتٍ خافتٍ مشوبٍ بالسخرية:
البطل… اتبدّل حاله في دقيقة.
فردّ عزوز وهو يبتسم ابتسامةً باهتة:
والبطل… اللي بقي متَّهَم.
وفي تلك اللحظة، كان الغربي عمران واقفًا في منتصف الميدان، الطين يسيل عن وجهه كدمٍ بارد، والناس تحيط به كأمواجٍ من الشكّ، والضابط يمدّ يده ببطء إلى سلاحه.
الليل كان ساكنًا… إلا من همهمةٍ غامضةٍ صعدت من الميدان، كأن المدينة كلها تتنفس الخيانة.
#فرحات_جنيدي
#رواية بقلم #فرحات_جنيدي
إلى اللقاء في الفصل الخامس