محاولات الترحيل الأمريكية تكشف أزمة جنوب السودان السياسية
بسبب التوترات السياسية المتصاعدة بجنوب السودان، أثارت محاولات الولايات المتحدة لترحيل مهاجرين من جنوب آسيا إلى هذه الدولة الناشئة جدلاً واسعًا. فقد اعتبر قاضٍ فيدرالي أمريكي أن هذه الترحيلات تنتهك أوامر المحكمة، مما سلط الضوء على الأوضاع غير المستقرة في جنوب السودان.
تأتي الأحداث في وقت يعاني فيه جنوب السودان من تجدد النزاعات بين الفصائل المتنافسة، مما يهدد بانهيار اتفاق السلام الهش الذي أنهى الحرب الأهلية السابقة. ويُخشى أن تؤدي هذه التوترات إلى عودة البلاد إلى دوامة العنف والصراع.
ترحيلات مثيرة للجدل
أوضحت صحيفة الجارديان البريطانية، أن السلطات الأمريكية قامت، في مايو 2025، بمحاولة ترحيل 8 مهاجرين من دول مختلفة، بما في ذلك كوبا ولاوس والمكسيك وميانمار وفيتنام، إلى جنوب السودان. وادعت السلطات أن هؤلاء الأفراد قد أدينوا بجرائم خطيرة مثل القتل والسطو المسلح. إلا أن قاضيًا فيدراليًا في ماساتشوستس حكم بأن هذه الترحيلات تنتهك أوامر المحكمة التي تنص على ضرورة توفير الإجراءات القانونية الواجبة للأشخاص المرحلين إلى دول ثالثة.
وأضافت، في تقرير نشرته الأربعاء 21 مايو 2025، أن سلطات جنوب السودان نفت وصول أي من هؤلاء المهاجرين إلى أراضيها، وأكدت أنها ستعيد ترحيل أي شخص لا يثبت أنه من مواطنيها. ويعكس هذا التوتر بين البلدين تعقيد العلاقات الدبلوماسية في ظل الأوضاع السياسية المتقلبة في جنوب السودان.
أزمة سياسية متفاقمة
قالت الصحيفة البريطانية أن جنوب السودان تعيش حالة من عدم الاستقرار السياسي منذ مارس 2025، عندما وضعت السلطات النائب الأول للرئيس، رياك مشار، تحت الإقامة الجبرية، متهمة إياه بتحريض أنصاره على التمرد. وقد أدى هذا الإجراء إلى انهيار اتفاق السلام الموقع في 2018، والذي أنهى 5 سنوات من الحرب الأهلية التي خلفت حوالي 400 ألف قتيل.
وأدى اعتقال رياك مشار، النائب الأول لرئيس جنوب السودان، إلى إشعال فتيل العنف مجددًا، إذ شنت ميليشيا الجيش الأبيض الموالية له هجمات مفاجئة على مواقع الجيش في مقاطعة ناصر. هذه التطورات العسكرية أعادت التوتر إلى الواجهة، وهددت بانهيار التفاهمات السياسية الهشة في البلاد.
وردًا على الهجمات، أطلقت الحكومة حملة عسكرية مضادة شملت قصفًا مكثفًا على مناطق تمركز الميليشيا، إلى جانب اعتقال عدد من الشخصيات المحسوبة على المعارضة. هذا التصعيد زاد من تعقيد الوضع الأمني، وعمّق الانقسامات السياسية، مما أثار مخاوف من عودة وشيكة إلى صراع داخلي شامل.
تحديات اقتصادية وإنسانية
بالرغم من امتلاك جنوب السودان لاحتياطيات نفطية كبيرة، إلا أن البلاد تعاني من أزمات اقتصادية خانقة. يعتمد الاقتصاد بشكل شبه كامل على صادرات النفط، لكن سوء الإدارة والفساد المستشري جعلا من هذا المورد عبئًا بدلًا من أن يكون ركيزة للتنمية، ما فاقم من معاناة السكان.
ويعيش أكثر من ثلثي السكان تحت خط الفقر في ظل غياب شبه كامل للخدمات الأساسية. تفتقر مناطق واسعة من البلاد إلى الكهرباء، والطرق المعبدة، والرعاية الصحية، مما يعكس فجوة هائلة بين ثروات الدولة وواقع حياة مواطنيها الذين يواجهون ظروفًا معيشية قاسية.
وتزيد الأزمات المناخية المتكررة من حدة الوضع الإنساني، إذ تعرضت البلاد في السنوات الأخيرة لفيضانات مدمرة تسببت في نزوح مئات الآلاف. هذه الظواهر تضاعف التحديات أمام حكومة تعاني أصلًا من ضعف الموارد وانعدام الاستقرار السياسي، ما يعوق أي محاولة جدية للإصلاح.
تداعيات دولية
أثارت محاولات الولايات المتحدة ترحيل مهاجرين إلى جنوب السودان موجة غضب من منظمات حقوق الإنسان، التي نددت بما وصفته بانتهاك صارخ للحقوق الأساسية وتعريض حياة المرحلين للخطر، خاصة أن بعضهم لا يحملون جنسية جنوب السودان. هذه الخطوة أثارت تساؤلات قانونية وأخلاقية حول مصداقية الإجراءات المتبعة.
جاء رفض حكومة جنوب السودان استقبال أحد المرحلين ليضيف تعقيدًا جديدًا على الأزمة. فقد أعلنت سلطاتها أن الشخص المعني لا ينتمي إليها، ما أثار شكوكًا بشأن دقة التنسيق بين الدولتين، وسلط الضوء على هشاشة البنية القانونية والدبلوماسية التي تحكم قضايا الترحيل بين الدول.
ردّت واشنطن على الموقف بتصعيد مفاجئ تمثل في إلغاء تأشيرات جميع حاملي جوازات السفر الجنوب سودانية، ما زاد التوتر بين البلدين. هذا التصعيد يعكس هشاشة العلاقات بين الطرفين ويكشف كيف يمكن للأزمات الحقوقية أن تتحول إلى أزمات دبلوماسية تزيد من عزلة جنوب السودان الدولية.
مستقبل غامض
رغم مرور أكثر من عقد على استقلاله، لا يزال جنوب السودان يواجه مستقبلًا محفوفًا بالمخاطر، وسط استمرار الانقسامات الداخلية وتراجع فرص التوافق الوطني. البلاد تقف اليوم على مفترق طرق: إما المضي نحو الاستقرار، أو العودة إلى دوامة الصراعات التي مزّقت نسيجها الاجتماعي والاقتصادي لسنوات.
وفي قلب الأزمة، تلعب القيادات السياسية دورًا حاسمًا في رسم ملامح المرحلة القادمة. قدرتهم على احتواء التوترات وتفعيل بنود اتفاق السلام ستكون عاملاً حاسمًا في تجنب انفجار جديد. لكن غياب الثقة بين الفرقاء وتأخر الإصلاحات يعمّقان الانقسام ويقللان من فرص الانفراج.
وفي ظل هذه المتغيرات، يراقب المجتمع الدولي الوضع عن كثب. جنوب السودان، كأحدث دولة في العالم، لا يزال يختبر قدرته على البقاء ككيان مستقر. الآمال معقودة على مسار إصلاحي شامل يعيد الثقة إلى مؤسسات الدولة ويفتح آفاقًا جديدة للتنمية والاندماج الوطني.