يوم عاشوراء: بين نجاة موسى وشكر النبي محمد. “صل الله عليه وسلم”..
بقلم صفاء الليثي
يوم عاشوراء: بين نجاة موسى وشكر النبي محمد. “صل الله عليه وسلم”
يوم عاشوراء، العاشر من محرم، هو يوم يحمل في طياته دروسًا عميقة وعبرًا خالدة في تاريخ الأنبياء والرسالات. إنه يوم يجمع بين حدثين عظيمين: نجاة نبي الله موسى عليه السلام وقومه من فرعون وجنوده، وصيام النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأمته شكرًا لله على هذه النجاة، مع إشارة إلى أحداث أخرى مهمة وقعت في هذا اليوم.
هذا المقال سيتناول بإسهاب دلالات هذا اليوم، مستعرضًا قصة موسى وفرعون، ثم موقف النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومستخلصًا العبر والدروس المستفادة.
نجاة موسى عليه السلام: معجزة الإيمان والصبر
تبدأ قصة عاشوراء بما حدث لنبي الله موسى عليه السلام وقومه بني إسرائيل. لقد عانى بنو إسرائيل طويلاً من ظلم وجبروت فرعون في مصر، الذي استعبدهم وقتل أبناءهم واستحيا نساءهم. أرسل الله موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون بدعوته إلى التوحيد والإيمان، وإطلاق سراح بني إسرائيل. لكن فرعون، ببطرٍ واستكبار، رفض دعوتهما، بل وازداد في طغيانه.
أجرى الله على يد موسى معجزات باهرة: العصا التي تتحول إلى حية تسعى، واليد البيضاء، والضفادع، والقمل، والدم، والطوفان، والجراد. كل هذه الآيات لم تزده إلا عنادًا وجحودًا. حينئذ، أمر الله موسى بالخروج ببني إسرائيل ليلاً. لبّى موسى الأمر، وخرج ببني إسرائيل، لكن فرعون وجنوده تتبعوهم بغيظ وحنق.
وصل بنو إسرائيل إلى البحر الأحمر، فكانوا بين البحر من أمامهم وفرعون وجنوده من خلفهم. ارتعدت قلوب بني إسرائيل، وقالوا لموسى: “إنا لمدركون”. لكن موسى، الواثق بوعد ربه، أجابهم: “كلا إن معي ربي سيهدين”. وهنا جاء الأمر الإلهي لموسى: ( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) (الشعراء: 63). فانفلق البحر، وتكون طريق يابس لبني إسرائيل عبروا من خلاله.
تبع فرعون وجنوده موسى وقومه، ظانين أنهم سيتمكنون من الإمساك بهم. لكن ما إن عبر آخر بني إسرائيل، حتى أطبق البحر على فرعون وجنوده، فغرقوا جميعًا أمام أعين موسى وقومه. كانت هذه آية عظيمة، ومعجزة خالدة تدل على قدرة الله وعظيم نصره للمظلومين وهزيمة الظالمين. لقد نجّى الله موسى وقومه، وأهلك فرعون وجنده، وذلك بفضل إيمان موسى وصبره وثقته بربه. ومن هنا، أصبح يوم عاشوراء رمزًا للنجاة والنصر بعد الضيق الشديد.
النبي محمد “صل الله عليه وسلم” ويوم عاشوراء: الشكر والامتنان
وانتقل بكم الآن إلى موقف النبي محمد “صل الله عليه وسلم” من يوم عاشوراء. عندما هاجر النبي “صل الله عليه وسلم” إلى المدينة المنورة، وجد اليهود يصومون هذا اليوم. فسألهم عن سبب صيامهم، فقالوا: “هذا يوم عظيم، وهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا لله تعالى فنحن نصومه”. فقال النبي “صل الله عليه وسلم”: “نحن أحق بموسى منهم”، أي أننا أولى بالاحتفاء بنجاة نبي الله موسى والاحتذاء به في شكر الله تعالى.
فصامه النبي “صل الله عليه وسلم” وأمر المسلمين بصيامه. وقد كان صيام عاشوراء في بداية الأمر فرضًا أو مؤكدًا جدًا، ثم لما فرض صيام رمضان، أصبح صيام عاشوراء سنة مؤكدة. وقد ورد في فضل صيامه أنه “يكفر السنة الماضية” (رواه مسلم).
ولكي يتميز صيام المسلمين عن صيام اليهود، وينفردوا بعبادتهم، أمر النبي “صل الله عليه وسلم” في أواخر حياته بصيام يوم قبله أو يوم بعده، فقال: “لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع” (رواه مسلم). وذلك لمخالفة اليهود في صيامهم يومًا واحدًا، وللتأكيد على استقلالية الأمة الإسلامية في شعائرها. وهكذا، أصبح الأفضل صيام يوم التاسع والعاشر من محرم، أو العاشر والحادي عشر.
إن موقف النبي “صل الله عليه وسلم “من عاشوراء يعكس عدة جوانب مهمة:
* الشكر لله تعالى: صيام عاشوراء هو تعبير عن الشكر لله على نعمة النجاة التي أنعم بها على موسى وقومه، وهو درس لكل مسلم بأن يشكر الله على نعمه، سواء كانت كبيرة أو صغيرة.
* الاعتراف بالأنبياء السابقين: النبي محمد “صل الله عليه وسلم” لم يتجاهل تاريخ الأنبياء السابقين، بل اعترف برسالاتهم وأحداثهم المهمة. هذا يدل على وحدة الرسالة الإلهية وأن الأنبياء جميعًا دعوا إلى التوحيد الخالص.
* مخالفة أهل الكتاب: حرص النبي “صل الله عليه وسلم” على تمييز الأمة الإسلامية عن الأمم الأخرى في شعائرها وعباداتها. هذا التميز يعكس الهوية المستقلة للدين الإسلامي.
* الاقتداء بالصالحين: صيام عاشوراء هو اقتداء بموسى عليه السلام، وهذا يؤكد على أهمية الاقتداء بالأنبياء والصالحين في أعمالهم التي ترضي الله.
دلالات أخرى ليوم عاشوراء
لم تقتصر أحداث عاشوراء على نجاة موسى. فقد ورد في بعض الروايات أن يوم عاشوراء شهد أحداثًا تاريخية أخرى في الأديان السماوية، مثل:
* رسو سفينة نوح عليه السلام على جبل الجودي بعد الطوفان.
* توبة آدم عليه السلام.
* ولادة إبراهيم عليه السلام.
* نجاة يونس عليه السلام من بطن الحوت.
* شفاء أيوب عليه السلام من المرض.
* إخراج يوسف عليه السلام من البئر.
وبغض النظر عن صحة كل هذه الروايات، فإنها تشير إلى أن هذا اليوم يحمل في طياته دلالات إيجابية تتعلق بالرحمة الإلهية والنجاة والفرج بعد الشدة.
ولكن، من المهم التنبيه إلى حادثة مؤلمة وقعت في يوم عاشوراء، وهي استشهاد الإمام الحسين بن علي حفيد رسول الله صل الله عليه وسلم في كربلاء. هذه الحادثة الأليمة لا ترتبط بفضل صيام عاشوراء ولا هي سبب للاحتفال أو الحزن المفرط، بل هي ذكرى حزينة في تاريخ المسلمين، ولا ينبغي ربطها بالعبادة المشروعة في هذا اليوم. فالعبرة الأساسية من عاشوراء تكمن في شكر الله على نعمه والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الدروس المستفادة من يوم عاشوراء
إن يوم عاشوراء يقدم لنا دروسًا وعبرًا عظيمة يمكن استخلاصها:
* قدرة الله ونصرته للمظلومين: قصة موسى عليه السلام تذكرنا بأن الله قادر على نصرة عباده مهما بلغت قوة الظالم، وأن الظلم لا يدوم.
* أهمية الصبر والتوكل على الله: موسى عليه السلام كان مثالاً للصبر والثقة المطلقة في وعد ربه، حتى في أحلك الظروف.
* الشكر على النعم: صيام عاشوراء هو تذكير بضرورة شكر الله على جميع نعمه، الظاهرة والباطنة. الشكر يزيد النعم ويبارك فيها.
* وحدة الرسالة الإلهية: النبي محمد صلى الله عليه وسلم أقر بنبوة موسى عليه السلام واحتفى بنجاته، مما يدل على أن جميع الأنبياء دعوا إلى أصل واحد وهو توحيد الله.
* أهمية التمييز في الشعائر: حرص الإسلام على أن تكون له هويته وشعائره الخاصة التي تميزه عن غيره، وهذا يعكس استقلالية الأمة الإسلامية.
* تجديد الإيمان والعزيمة: يعتبر هذا اليوم فرصة للمسلم لتجديد إيمانه، والتأمل في عظمة الله، وتقوية عزيمته على طاعته.
في الختام، يوم عاشوراء ليس مجرد يوم عابر في التقويم الهجري، بل هو يوم يحمل في طياته تاريخًا عظيمًا، ومعجزات باهرة، ودروسًا مستفادة للأجيال. إنه يوم يذكرنا بقوة الله ونصرته، وبلطفه ورحمته، وبوجوب الشكر والامتنان له على نعمه التي لا تحصى. وهو فرصة للتأمل في مسيرة الأنبياء العظيمة، والاقتداء بهم في الإيمان والصبر والتوكل على الله. فلنغتنم هذا اليوم بالعبادة والذكر والشكر، مستلهمين منه العبر التي تقودنا إلى طريق الفلاح في الدنيا والآخرة.