عبدالحى عطوان يكتب : رفيقة الدرب هل تعودين ؟

عبدالحى عطوان يكتب : رفيقة الدرب هل تعودين ؟

وقف مضطرباً، يتجول بعينيه ما بين جدران الغرفة التى أصبح يحفظ كل تجاعيدها، وألوانها، والثقوب التى بها، وما بين اللوحات القديمة المعلقة على كل شبر منها، والتى تحمل كل منها ذكرى معينة، والمصباح القديم المعلق فى أحد أركانها، والذى لازمه منذ وطأت قدماه بابها، ألتفت إليها قليلاً، وهى تغط فى سبات عميق، تغطى جسدها بتلك البطانية المنقوش عليها نمراً ملوناً، والتى تذكره بيوم شرائها من المعرض الشهير أثناء التخفيضات بمدينته ،ساقيها العاريتان، وجهها الملائكى، أنفاسها، حضنها الدافئ، أخذ يتأملها جيداً، تاه ببصره قليلاً، قفزت إلى رأسه تلك الذكريات التى ظلت تطارده طيلة سنواته الأخيره، بعدما أنطفئ كل الفوران الذى كان يعيشه معها، تذكر تلك الإبتسامة الرائعه، العينان اللمعتان، عندما كان يناديها، زوجتى الحبيبه.. حبيبة عمرى.. أبنة العم.. رفيقة دربي.. أخذته تنهيده عميقة الى سنوات مضت، إلى رحلته معها ،لم تضايقه يوماً لم تقف تحاسبه عن أخطائه أو نزواته، غيرتها الرقيقه المهذبه، ونظرات العتاب أحيانا ً كانت دافعاً كافياً لتجعله مهما كانت له شطحات، يعود سريعاً يطارحها الغرام، فهى امرأة رقيقة، جذابه، ذات سحر خاص، جمعت بين الكبرياء والشموخ، الأبتسامه لم تفارق شفتيها، أنوثتها الطاغيه، وضفائر شعرها المكسوة ببريق الذهب، ولمعان عينيها كضوء الشمس عندما يلامس موج البحار فيتلألأ ،كانت تقابل معاملته الوقحة بكل الود، أراد أن ينطق أن يتفوه ببعض الكلمات، ولكن خوفه أن يوقظها وشعرها المسدل بجانب رأسها جعله يقبل جبينها بهدوء ويخرج مسرعاً، يرتدى ملابسه خارج الغرفه، التى لم يشق عتمتها شعاع الشمس الناعس منذ سنوات،

ألقى بجسده فوق الأريكة الموجوده بين أركان الصاله، وهو ينتابه حزن دفين شعر بصداع رهيب يجول برأسه، حاول أن يتناول كبسولة من أحد المهدئات التى وصفت له مؤخراً، وقف منتفضاً فتح نافذته، ليسمح لبعض نسمات الضوء الخافت أن تتسرب لتضئ عتمة المكان، أخذته ذاكرته للوراء إلى عبقاً تاريخياً، ممتداً يحمل داخله جانباً من الصور التى مازالت محفورة بوجدانه، كل حرف كل إحساس، ذلك الشغف مازال قائماً يملأ داخله ،دفء اللحظات الأولى حينما تقابلا نظرات العيون، التعرض لكل شئ همساً،تيه الكلمات، الصمت المدقع الغوص فى كل التفاصيل دون الحديث،

أغمض عينيه، وراح يهذى بكلمات غير مفهومه، فلم تستحق تلك النهاية، أن تفقد كل شئ ،عقلها، وبريقها، وأنوثتها، فمنذ تلقيها خبر موت أبنها شهيداً على تراب سيناء، برصاص الغدر بلا رحمة، وهى هائمة على وجهها، منذ أن أحتضنت رأسه وقبلت جبينه، ورفاقه يحملونه مكفناً ملفوفاً بعلم بها الألوان الثلاثه وهى فاقده لكل شئ، تائهة ،تخرج يومياً تنتظر عودته وهو يحمل مخلته، مرتدياً بذلته العسكرية لتحتضنه، وتمازحه بتلك التحية العسكرية باتت لا تصدق فقد أسقطت من ذاكرتها مشهد وفاته، الجنازة العسكرية ،وداع أهل القرية ،العويل والصراخ، باتت تجوب الشوارع تحدث عنه كل من تقابلهم، تستوقفهم تسألهم تطلب منهم الإتصال به، تجرى منكوشه، مبتذلة الملابس، وكأنها المجذوبه، بعدما كانت تروى عن جمالها الحكايات، يقتادها ببطء إلى فراشها، تنساب دموعها كسيل يجرفها ببطء للهاوية ،يكوى قلبها ذلك الألم الذى لا يشعر به غيرها ،يسقيها المخدر كى تنام،ولكنها تستيقظ تصرخ منهارة حزينة على عمرها الذى غادرها ولن يعود ،حتى تدهورت صحتها وأصبحت تتخبط فى جدران الزمن الغادر،

أبنة العم ..رفيقة الدرب .حبيبة العمر ..رفقا بي وبنفسك فلا ذنبا أنت أرتكبت ولا ثمناً تدفعين، بدونك الحياة كفناً مميت، يطاردنى الخوف والرهبة والرعب، بت محاصراً بالملل والوحدة والأشباح، أحاول أن أقاوم أرسم الأبتسامه على وجهى المتعب الحزين أتصنع كل ما أفعل لكن هيهات فبداخلى شرخ عميق يهدد بأنهيارى فهو أيضاً أبنى الوحيد أنها إرادة الله فهل تعودين؟