أمك ثم أمك ثم أمك ” جزء 9″

الدكرورى يكتب عن أمك ثم أمك ثم أمك ” جزء 9″

بقلم / محمـــد الدكـــرورى

أمك ثم أمك ثم أمك ” جزء 9″

ونكمل الجزء التاسع مع أمك ثم أمك ثم أمك، بدأ الحريق في إحدى الغرف، فحاولت الأم الخروج من الأبواب فإذا هي مقفلة، صعدت سريعا مع أطفالها الثلاثة إلى سطح المنزل لتخرج من بابه فألقته مغلقا كذلك، حاولت فما استطاعت، كررت فأعياها التكرار، تعالى الدخان في المنزل، وبدأ النفس يصعب، احتضنت صغارها، ضمتهم إلى صدرها، وهم على الأرض حتى لا يصل الدخان الخانق إليهم، والأم الرؤوف تستنشقه هي، لما وصلت فرق الإنقاذ إلى سطح المنزل وجدوها ملقاة على بطنها، رفعوها فإذا بأبنائها الثلاثة تحتها أموات، كأنها طير يحنو على أفراخه يجنبهم الخطر، تدافع عنهم من عدو كاسر، وجدوا أطراف أصابع يدها مهشّمة وأظافرها مقطوعة إذ كانت تحاول فتح الباب مرة، ثم ترجع إلى أولادها لتحميهم من لهيب النار وخنق الدخان مرة أخرى.

حتى قضت وقضوا، في صورة تجسد روعة التضحية، في لوحة مصونة بألوان الحنان منقوشة بريشة العطف والرحمة، ومع كل هذه التضحية والتفاني في الحفظ والرعاية التي تقدمها الأم لوليدها وفلذة كبدها، حتى قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في بيان عظم حقها مع الوالد” لا جزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فتشتريه فيعتقه” رواه مسلم، وإن مع هذا الحب الفياض والعطف الرؤوف والحنان المتدفق نسمع ونرى من صور العقوق ونكران الجميل والقسوة العجيبة والغلظة الرهيبة وإساءة العمل وسوء التعامل ما لايتحمله عقل ولا قلب، حقا إنها مأساة، فلا شك أن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى حب ورعاية الأولاد، بل وإلى التضحية للأولاد بكل غالى ونفيس، فكما تمتص النبتة الخضراء كل غذاء فى الحبة فإذا هى فتات، وكما يمتص الفرخ كل غذاء فى البيضة.

فإذا هى قشرة هشة، فكذلك يمتص الأولاد كل رحيق وعافية واهتمامومع ذلك فهما سعيدان، فإذا بالوالدين في شيخوخة فانية، ولكن من الأولاد من ينسى سريعا هذا الحب والعطاء والحنان والرعاية، ويندفع فى جحود وعصيان ونكران ليسيء إلى الوالدين بلا أدنى شفقة، أو رحمة أو إحسان، وتتوارى كل كلمات اللغة على خجل واستحياء بل وبكاء وعويل حينما تكتمل فصول المأساة، ويبلغ العقوق الأسـود ذروته حينما يقتل الولد أمه، وحينما يقتل الولد أباه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإليك قصة غاية فى البشاعة والإجرام والجحود، يقصها علينا قائل ويقول ولقد وقعت فى إحدى القرى جريمة مروعة شنعاء فى أسرة فقيرة تتكون من عشرة أبناء، يقضى الوالد المسكين ليله ونهاره ليوفر لأبنائه العيشة الطيبة الكريمة ويلحقهم بأرقى الكليات بالجامعة.

من بين هؤلاء الأبناء ولد عاق، بدلا من أن يساعد أباه فى نفقات هذه الأسرة الكبيرة راح يلهب ظهر والده بالمصروفات ليضيعها على المخدرات والفتيات، فقال له والده المسكين أى بني أنا لا أقدر على نفقاتك ومصروفاتك، دعنى لأواصل المسيرة مع إخوانك وأخواتك، وأنت قد وصلت إلى كلية العلوم فاعمل وشق طريقك فى الحياة، ولكن الولد تمرد على التقاليد والقيم وعلى سلطان البيت والأسرة، بل وعلى سلطان الدين، راح هذا الولد العاق يفكر كيف يقتل أباه؟ ويقول القائل إى والله حدث ما تسمعون إنه طالب فى كلية العلوم راح يستغل دراسته استغلالا شيطانيا خبيثا حيث أعد مادة كيمائية بطريقة علمية معينة، وأخذ كمية كبيرة، وعاد إلى البيت، وانتظر حتى نام أبوه المسكين، فسكب المادة الكيميائية على أبيه وهو نائم، فأذابت المادة لحم أبيه وبدت العظام.

والله إن الحلق ليجف، وإن القلب لينخلع، وإن العقـل ليشط، وإن الكلمات لتتوارى فى خجل وحياء، بل وبكاء وعويل، أمام هذه المأساة المروعة الشنعاء بكل المقاييس، ويقول القائل قد يرد الآن عليّ أب كريم من آبائنا أو أخ عزيز ويقول إنه الفقر، قاتل الله الفقر، وإن الجواب ما كان الفقر سببا ليقتل الولد أباه، وإذا أردت الدليل فخذ الحـدثة الثانية المروعة التى طالعتنا بها جريدة شهيرة منذ فتره وهى أن أسرة ثرية وصل الوالدان فيها إلى مرتبة اجتماعية مرموقة، فالأم تحمل شهادة الدكتوراه فى الهندسة جلست هذه الأم المثقفة لتناقش ابنها فلذة كبدها الـذى أنهى دراسته الجامعية فى أمر خطيبته التى أراد أن يتزوجها، فالأم تعارض هذا الزواج لاعتبارات وأسباب ترى أنها وجيهة من واقع خبرتها ومسؤليتها تجاه ولدها، فاحتج الولد على أمه.