الدكرورى يكتب منزلة الجوار فى الشريعة الإسلامية ” جزء 3″
بقلم / محمـــد الدكــــرورى
منزلة الجوار فى الشريعة الإسلامية ” جزء 3″
ونكمل الجزء الثالث مع منزلة الجوار فى الشريعة الإسلامية، وقد ذكر الخطيب البغدادي رحمه الله، في تاريخه قصة وقعت لأبي حنيفة رحمه الله مع جار له، قال كان لأبي حنيفة بالكوفة إسكافي أي صانع يعمل نهاره حتى إذا جن الليل رجع إلى منزله وقد حمل لحما فطبخه، أو سمكة فيشويها، ثم لا يزال يشرب حتى دب الشراب فيه غنى بصوت وهو يقول أضاعوني وأي متى أضاعوا، ليوم كريهة وسداد ثغر، فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم, وكان أبو حنيفة يصلي بالليل ويسمع جلبته، ففقد أبو حنيفة صوته فسأل عنه فقيل أخذه العسس منذ ليال وهو محبوس، فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر من غد وركب بغلته واستأذن على الأمير، قال الأمير ائذنوا له وأقبلوا به راكبا.
ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط، ففعل، فلم يزل الأمير يوسع له من مجلسه، وقال ما حاجتك؟ قال لي جار أخذه العسس منذ ليال، يأمر الأمير بتخليته، فقال نعم، وكل من أخذ في تلك الليلة إلى يومنا هذا، فأمر بتخليتهم أجمعين، فركب أبو حنيفة والإسكافي يمشي وراءه، فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه وقال يا فتى أضعناك؟ قال لا، بل حفظت ورعيت جزاك الله خيرا عن حرمة الجوار ورعاية الحق، وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان، وذكر أن محمد بن الجهم عرض داره للبيع بخمسين ألف درهم، فلما حضر الشارون لشرائه قال لهم قد اتفقنا على ثمن الدار فبكم تشترون جوار سعيد بن العاص؟ فقيل له والجوار يباع؟ قال وكيف لا يباع جوار من إذا سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتدأك.
وإن أسأت إليه أحسن إليك، فبلغ سعيد بن العاص فوجه بمائة ألف درهم وقال له أمسك دارك عليك، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه” ولقد شيّد رجل من المسلمين دارا كبيرة فسيحة، فجملها وأبهاها وحسنها، وبعد برهة من الزمن تعكرت حياته في تلك الدار، فعاف حسنها، وكره سكناها، وتمنى كل خلاص منها، فلما عرضها للبيع بأرخص الأثمان، وأبخس الأسعار، وتمت البيعة بسعر زهيد لامه الناس والعذال فأجابهم بقوله يلومونني أن بعت بالرخص منزلى، وما علموا جارا هناك ينغص، فقلت لهم كفوا الملام فإنها، بجيرانها تغلو الديار وترخص، وإن الجيران ثلاثة، فهم جار له ثلاثة حقوق، وجار له حقان، وجار له حق واحد.
فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فهو الجار المسلم القريب، فإن له حق الإسلام وحق القرابة وحق الجوار، والجار الذي له حقان هو الجار المسلم، فإن له حق الإسلام وحق الجوار، والجار الذي له حق واحد هو الكافر له حق الجوار فقط، ولقد كان السلف الصالح والكرام من الناس يعرفون قدر الجوار، ولا يؤثرون بالجار الصالح مالا ولا عرضا من الدنيا، وإن حقوق الجار كثيرة ومتعددة، وهي دائرة على ثلاثة حقوق كبرى، أحدها كف الأذى عن الجار، والثانى الإحسان إليه، والثالث الصبر على الأذى منه، فأما الإحسان إلى الجار فهو من أفضل الأعمال والقربات، كيف لا وهو سبب من أسباب نيل محبة الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ويقول نبينا صلى الله عليه وسلم.
“إن أحببتم أن يحبكم الله ورسوله فأدوا إذا ائتمنتم، واصدقوا إذا حدثتم، وأحسنوا جوار من جاوركم ” رواه الطبرانى، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ما من عبد مسلم يموت فيشهد له ثلاثة أبيات من جيرانه الأدنين بخير، إلا قال الله عز وجل ” قد قبلت شهادة عبادي على ما علموا، وغفرت له ما اعلم” رواه أحمد، فإن الإحسان إلى الجيران يشمل كافة وجوه الإحسان، ولو كان شيئا يسيرا أو حقيراً، لما له من أثر في تقريب النفوس وإزالة الأحقاد، وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال “يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاه ” وفرسن الشاه هو حافرها.